
لا أدري كيف أحدثك عن حيوان غريب دخل غرفتي مع دخول فصل الشتاء هذا، لقد كانت ليلة مطيرة كنت أهنهنّ فيها أمام النافذة، وأضواء الشارع البيضاء تعبث مع مصباح المكتب الباهت، لقد كان فراؤه الكثيف مبتلًا للغاية، لقد بلل السجّاد، ولكنه كان ينظر إلي بوجل واحترام، كانت عيناه سوداء داكنة مشوبة بتموجات رمادية مرَضيّة نوعًا ما، لقد جلس في الزاوية وبدأ يتظاهر بالنوم، وكأنه يقول: “أهلًا! سأقضي السبات عندك هذه السنة، لن أتحرك ولن أزعجك ستنسين وجودي تمامًا”، حسنًا لقد أجبرني على الموافقة، أشعر أن الموافقة تذوب على رأسي وكأنه يسحقني بكتلته الثقيلة! لقد وافقت، فهو من فصيلة الدببة متوسط الحجم ولونه كلون الجوز المقشّر، لقد كان يشبه الشتاء تمامًا وكأنه أيقونته الرمزية.
لست مستغربة أنه أوفى بوعده بدقة، لم يتحرك ولا حركة، وليته كان يتحرّك! فلا أذكر أنني ارتحت بعمق منذ قدومه إلى هنا، لأكون صادقةً؛ فهو ليس مخيفًا بل يُشعرك بأن مُحاذرتُه نوع من العبث؛ إذن فلم يكن يضايقني ولكنه يشبه عدسة حيوية كبيرة، إنه عين من عيون الوجود المركزية كمنت في حياتي الخاصة، كان مغمض العينين وكأن عينيه -على ما أذكر- مصابتان بالرَمد، ولكن – إن صدق احساسي- فإنه ليس مفتقرًا إلى هاتين العينين الصغيرتين؛ بل هو كرة عين كبيرة تفسخّت من جفنها وخرجت من محجرها وتدحرجت إلي من غابة استرالية لتستقر في غرفتي، أدركُ أن لها عملًا كبيرًا معي، ومهما كنتُ قويةً وفتّاكة ولدي مخالب السيوف وأسنان المقصلة فلم أكن لألوّحَ بها لهذا الكائن؛ لا يمكن التحامق أمامه ولو لمرة واحدة.
لقد كانت الدموع تتقاطر داخل صدري مثل كهف تحت الأرض يتقاطر الماء من سقفه، تسمع صوت الماء ملحًا ولا يمكنك أن تُشعر به أحدًا، لم أستطع أن أدمع ولو قليلًا وهذه العين الكبيرة التي تُغمّضُ عينيها التافهتين أمامي تستوعبني وتستدركني بشره لا نهائي، ما عدت أكتب الرسائل، لقد خيبتُ ظنون الكثيرين، لقد أخلفت وعودي، وعلى خساسة هذا الفعل فإنه بدا لي مسوَّغًا في سياقي هذا، فقد كان الخطأ يؤلمني بعمق وكأنني مهددةٌ بخسارة الغدد الدمعية، أو بخسارة أي أثر من آثار الشعور، وهذا يرعبني، لست في مزاج جيد لشرح هذا، وأقول بين حين وآخر: “لم أعد أحتمل أية أخطاء!” لكن أنفاس هذا الدب الخفية تجعلني أعيد التفكير في كل شيء؛ حسنًا، لا تُصدّق كل ما أقول، فأنا سأتحمّل أي شيء قطعًا، لأن السوء لا يحدث إلا على شيء يضاهيه في الوجود والقوة، ولو كان المرض، ولو كان الموت! أليس كذلك؟ لا زال يتنفّس بعمق مطرّد تردد فيّ هذه المرة مؤيدًا لما قلته.
إن قلبي يتردد كثيرًا، ويردد بعض الأفكار بتكرار محكم، التفكير يجرحني بحدّ ذاته الفضيّة، لقد كانت أنفاس الدب تعطي إشارات مختلفة رغم أنها لم تختلف أبدًا، بل هي مستمرة بإيقاع واحد رتيب مطردّ، ولكن كنت أفهمها بأحوالي المختلفة كتنبيهات، كتوجيهات، كتربيتات، كلوم قاسٍ، وأبخرة خانقة! يا للإلهام!
صرت عجوزًا فجأة، وبحماس مراهقة، ظننت أن الشتاء لن ينتهي ما لم أعرف سري الذي جذب إلي هذا الدب، وعندما يأتي طارئ الصدفة أفهم أن الشيطان يحاول مساعدتي، وبما أنني أؤمن بحكمة الله فقد لعنتُه وتعوّذتُ بالله منه. إن لي أصابع بائسة كانت تحب الاستهتار بي كلما أردت الكتابة إلى نفسي، حتى أنني لا أذكر أنني فكرت بما كتبته حقًا، فأجدني أضحك معها أيضًا وكأنني أقرأ شيئًا توجّه إلي للتو، ليس سخريةً، بل استظرافٌ لكل تجربتي، في العام الماضي أذكر أنني كنت سأموت من الحزن بسبب أمر ظننته شرًا محضًا، كان وجهه غريبًا جدًا وداكنًا مظلمًا، لكنه فتح فمه الضخم في وجهي فجأة، لقد كان كبيرًا ككهف لا يشبه أي كهف رأيته في التلفاز، وكان بلعومه يتدلى في وجهي كخفاش يحدق بي بعينين صفراوين ضاحكة! لقد كان يهزأ بي بخبث! لم يكن خلف ذلك الخفاش معدة جهنمية ولا موت ولا نهاية، لقد رأيت الغابة التي كنت أتمنى الذهاب إليها مع أقراني في باص أكاديمي، ولكن من بلعوم هذه الكارثة رأيت مركز الغابة وسرها ومصدر حياتها الحقيقي الذي لم يحكي الأكاديميون لي عنه شيئًا، كانوا يحبون الغابة ويثرثرون حولها بتكرار مُدوّخ في حين لا يعرفون شيئًا عن حقيقتها. فإذا كنت أنخدعُ بالحزن، وإذا كان الجهل هو من يجلب الحزن فقط فإني سأبحثُ عن علم يبطله، أو أن أفتقد تأثري به -على الأقل لا آخذه بجدية- فما دمتُ جاهلةً فلماذا لا أكون أجهل وأجهل حتى يهرب شبح الحزن مرتاعًا من بلاهتي؟
لست في سياق كئيب ولا كارثة، إني أسمع صوت جرّار يعمل بصوت خانق وكأنه احتضار طويل، لقد أعدت ترتيب كل شيء اليوم، أول شيء يجب أن نفهم بجدية أن الإنسان ضعيف، وأنه يتكيّف ثم يقتدر بإذن الله، وهي السُنّة، ولقد رأيت من يتلذذون بالعجز ويرونه نهاية عظيمة لقصة بحّار عظيم أو آخر معقلٍ لبطل حرب فَصلَ في أكثر من عشرين معركة، الأمر مختلف، فالعجز ليس فضيلة، وليس أنك رأيت الرأس المدبب لنهاية الإمكان، إنه لا ينتهي أبدًا هذا الإمكان مهما راغمته، لا شيء إلا وأضداده التي تُكافئه محيطة به، وهي تتخبطه حتى تطيح به في ليل أو نهار -وقد تكون أنت إحدى هذه الأضداد أو تنبعثُ هي في صالحك – وعندما يكون المرء أعمى فهذه مشكلة بسيطة لا تغير في السنة شيئًا.
إذا كان العجز نهاية الإمكان – وأنا أدرك الفرق بين الإمكان المطلق والإمكان النسبي-، وإذا كنت تعتبر أنك وحدك الفاعل فقط، وأنك مدبّر أمورك الحقيقي، فأنت تدعي أنك رأيت رأس الإمكان ونهايته، ويجب أن نرميك بالعجز، ليس بالعجز الوصفي، وإنما بالعجز الاختياري الخنوع صانع النهايات المريحة الأكثر شاعرية!
لقد تأملتُ أعماق الألم، وظننت وظننت، ولكن الحياة أكثر جدية من انطباع شخصي أو صدمة نفسية، لذا فنحن بحاجة لأصابع مستهترة، وعيون حنونة.
الدُّب! أنا أحبه، فليكن شتاءً أبديًا، وليكن أطول سبات!